بين الحين والآخر تعرض الشاشات أعمالًا فنية تعود أحداثها لسنوات طويلة مضت، رغم أن رسالة العمل أو محتواه يمكن تقديمه في الزمن الحالي، أو بتعبير أدق: لا توجد ضرورة درامية هنا للعودة إلى زمن مضى للتعبير عن الفكرة.
فهل الحنين للماضي هو ما يُحرك صناع هذه الأعمال لإنجازها على هذا النحو؟ أم أنها الوسيلة الوحيدة للهروب من مناقشة المشاكل الحياتية، سواء سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية، خصوصًا في ظل الأجواء العامة التي تؤثر بالطبع على الإبداع.
«نوستالجيا» الجمال والرومانسية في مقابل القبح والجفاء
«الإبحار في هذا الزمن، هو السبب الوحيد الذي حسم موافقتي على هذا العمل حينما عرضته على الشركة المنتجة»، هذا ما قاله هاني خليفة مخرج مسلسل «ليالي أوجينى »، أحدث الأعمال الدرامية التى عُرضت مؤخرًا، ولاقت نجاحًا كبيرًا لـ«ساسة بوست»، مشيرًا إلى أن نجاح هذه القوالب والتى سبق وأن قدمت من قبل في مسلسلات «جراند أوتيل»، و«طريقي» وغيرها، حتمًا تشجع البعض لإعادة تقديمها.

وبعيدًا عن تفعيل الحنين لزمن مضى بكل تفاصيله وخصوصيته، والتي شجعت خليفة بشكل عام على تقديم هذا العمل الذي يعود بنا إلى أربعينات القرن الماضي، إلا أن رصد المشاعر الإنسانية التي ميزت هذا العصر – وباتت مفقودة الآن – هي أكثر ما أشعل حماسه، مشيرًا إلى أن أغلب العلاقات حاليًا تتسم بالعدوانية والحدة في التعامل، في مقابل الهدوء، والترابط الأسري، والبراءة، وراحة البال، وعلاقات الجيرة بكل ما فيها من شهامة وإنسانية، وكذلك اللغة نفسها، وما كانت تحمله من رقي وتحضر، بالإضافة إلى الرومانسية التي ميزت هذا العصر، ودمرتها الحياة العصرية، أو بالأخص التكنولوجيا.
اقرأ أيضًا: ماذا لو أنتجناها اليوم؟ كيف «تنسف» التكنولوجيا الحبكة الدرامية للأفلام القديمة
«حرب كرموز».. هدية السبكي للقوات المسلحة المصرية
وإذا كان التركيز على المشاعر المفتقدة هو دافع المخرج هانى خليفة لتقديم مسلسل «ليالي أوجينى»، فإن تلبية رغبة المنتج محمد السبكى هى السبب وراء تنفيذ فيلم «حرب كرموز»، كما ذكر المخرج بيتر ميمى عبر حسابه الشخصى على موقع التواصل الإجتماعى «فيسبوك»، مؤكدًا أن السبكي كان يرغب في تقديم فيلم عن الاحتلال الإنجليزي، وأنه تعامل مع الموضوع في البداية على أنه مجرد دعابة، إلا أنه فوجىء بجديته ورغبته الحقيقية، وأنه سبق وعرض فكرة الفيلم التي تحمل توقيعه على اثنين من المؤلفين، إلا أنهم اعتذروا عن المشروع، فتحمس هو لكتابه المعالجة التي أعجبت السبكي، و بدوره تحمس لتنفيذها، فيما تولى ميمى إقناع الفنان أمير كرارة ببطولة الفيلم، كما واصل كشف كواليس العمل عبر حسابه الشخصي.
أما السبكي فقد أكد فى أحد حواراته الصحافية أنه اختار تقديم فترة زمنية بعيدة كى يقدم شيئًا جديدًا فى السينما، مشيرًا إلى أن عددًا من المنتجين يخافون تقديم هذه النوعية من الأفلام، لكنه قدم هذا الفيلم؛ لأنه على يقين بأن هناك أبطالًا يموتون كل يوم من أجل تقديم التضحية لهذا البلد سواء كانوا من القوات المسلحة أو الداخلية، وهذا الفيلم أقل هدية يقدمها لهؤلاء الأبطال.
الفانتازيا التاريخية في الأعمال الدرامية التي تدور في الماضي
الناقد السينمائي رامى عبد الرازق في تصريحات خاصة لـ«ساسة بوست» أكد أن أعمالًا مثل «ليالي أوجينى» و«حرب كرموز»، أحدث الأعمال التى عرضت مؤخرًا وتدور أحداثها في الماضي يمكن وصفها بالفانتازيا التاريخية؛ نظرًا لأن أحداثها تستغل الزمن كإطار، لكنها ليست مبنية على أحداث حقيقية، وفي الأغلب يلجأ كتابها للقوالب الأجنبية التي تبحر في أزمنة مضت لتنسج من خلالها الأحداث والتي في الغالب تصلح لأن تدور في الزمن المعاصر.
ويواصل عبد الرازق قائلًا: «إلا أن العودة إلى أزمنة مضت، تمنح تلك الأعمال المتواضعة جدًا في تصورى قبلة الحياة؛ لأنها تتيح لنا «الفرجة» على هذا الزمن بكل تفاصيله في الشوارع والديكورات، وطريقه الكلام، وغيرها من التفاصيل التي تعد عوامل جذب، بالرغم من أن العمل نفسه قد لا يحمل أي عناصر نجاح أو تميز»، مشيرًا إلى أن الكلام ذاته ينطبق على فيلم «حرب كرموز» الذي استغل ظرفًا تاريخيًا، هو الاحتلال الإنجليزي لمصر، ولو كانت أحداث الفيلم قد انتقلت لعصر المماليك لما اختلفت الأمور إلا شكليًا فقط، وتحديدًا على مستوى الديكور والإكسسوارات.
اقرأ أيضًا: إمبراطورية نتفليكس.. كيف ستغيِّر مفهوم السينما وصناعة الأفلام في المستقبل؟
عبد الرازق يؤكد أن هذه الأعمال استغلت الماضي فقط، ودون تماس حقيقى معه، بعكس أعمال أخرى مثل مسلسل «المصراوية» أو مسلسل «زيزينيا» تعرضت لقضايا وأحداث تاريخية حقيقية، ومن ثم لا ينطبق عليها توصيف الفانتازيا التاريخية، خصوصًا مع حرص مؤلفها الراحل أسامة أنور عكاشة على تقديم دراما الغرض منها البحث في الشخصية المصرية، ومراحل تطورها والعوامل التي أثرت فيها وساهمت في صياغتها، فـ«المصراوية» مثلًا تحكي عن قرية غير موجودة أصلًا على الخريطة، وبالتبعية شخصيات المسلسل، ولكنها كانت وسيلة المؤلف أسامة أنور عكاشة لمناقشة أفكاره كما أشرنا عن الشخصية المصرية وما لحق بها من تحولات.
كذلك مسلسل «ليالي الحلمية»، والذى رصد الكثير من الأحداث السياسية التي عاشتها مصر والوطن العربي أيضًا، والكثير من التحولات التي لحقت بالشخصية المصرية والتغيرات في القيم والأخلاق، وحتى مفردات اللغة رصدتها أيضًا الليالي، والتي لا يعتبرها عبد الرازق عملًا تاريخيًا خاصًا، ولكنه عمل يتعرض لبعض الأحداث التاريخية.
استخدام الماضي للهروب من مقص الرقيب
الناقد السينمائي نادر عدلي من جانبه يرى في تصريحات خاصة لـ«ساسة بوست» أن كل حاله ولها مبرراتها، فمثلًا جزء رئيس من تعلق الناس بمسلسل ليالي أوجينى يرجع إلى أنه قدم مصر في سنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي بكل خصوصية المجتمع في تلك الفترة، وتفاصيله المبهرة من لغة وملابس وشوارع وغيرها، كذلك حالة التعايش والانصهار في المجتمع المصري التي عاشها الأجانب في تلك الفترة لدرجة أنهم كانوا جزءًا من التركيبة الاجتماعية للمجتمع المصري.
يواصل عدلي قائلًا: «أيضًا المشاعر والعلاقات التي ناقشها مسلسل «ليالي أوجينى» من الصعب طرحها عبر أعمال درامية الآن، تحديدًا علاقات الحب والعلاقات خارج منظومة الزواج، بدليل الهجوم الذي لحق ببعض الأفلام والمسلسلات التي تناولت هذه العلاقات؛ لكونها تناولتها على نحو من الجرأة والحرية؛ ما عرضها لانتقادات من بعض المشاهدين، لكن اختيار تقديمها في الزمن الماضي يعفيها من تلك الانتقادات»، على حد توصيفه.
عدلي يرى أيضًا أن البعض يفضل الهروب للماضي لمناقشة قضايا الحريات، كما في مسلسل «اختفاء»، الذى عرض مؤخرًا؛ حيث ناقشت أحداثه قمع الحريات من خلال فترة الستينات، وما تعرض له عدد من المثقفين في تلك الفترة من القرن الماضي، وكيف كان القمع عنوانًا للمرحلة؛ ما اعتبره البعض إسقاطًا على الحاضر، رغم أن الاختباء في الماضي، لعبة لجأ لها العديد من صناع الأعمال الفنية كنوع من الإسقاط السياسي على أوضاع وأحوال لا يمكن طرحها بجرأة في الزمن الحاضر، و إلا تصادموا مع مقص الرقيب.
فيما أن فيلم «حرب كرموز»، وكما يرى عدلي جاءت عودته للماضي للتأكيد على الرسالة الأمنية التى تفيد بأن جهاز الشرطة ومنذ قديم الأزل هو حاميها، وأن البعض ممن خرجوا على السياق العام في هذه المؤسسة مجرد استثناء للقاعدة.
نادر يؤكد أيضًا أن دوافع هذه الأعمال التي تبحر في الماضي وغيرها تختلف من عمل لآخر، مشيرًا إلى أن الحرص على تنوع الأعمال بين كوميدي أو تشويقي أو تاريخي، وغيرها من التصنيفات، محاولة من صناع هذه الأعمال لتلبية كل احتياجات السوق، ففي موسم يتنافس فيه ما لا يقل عن 30 عملًا، أو أكثر لا بد من تنوعها حتى يتمكن منتجوها من بيعها.
أما عن الفرق بين هذه الأعمال التي تستخدم الماضي إطارًا تدور من خلاله الأحداث، وتلك التي تتناول أحداث تاريخية بعينها، فيؤكد نادر أن 90% من النوع الأول «يتمسح» في التاريخ، ولا يتناوله بجدية أو بشفافية، بعيدًا عن الاستقلالية.
The post الأعمال الدرامية التي تبحر في الماضي.. «نوستالجيا» أم هروب من مقص الرقيب؟ appeared first on ساسة بوست.