في يونيو (حزيران) 2017، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية أخبارًا عن إنتاج «نتفلكس» – وهي شركة أمريكية ترفيهية – فيلمًا يتناول قصة صهر جمال عبد الناصر بوصفه جاسوسًا لإسرائيل إبان حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أمد تل أبيب والموساد بمعلومات عن الجيش المصري.
ثارت الأقاويل أن الفيلم يسيء لسيرة رجل الأعمال المصري أشرف مروان، إذ أشارت جريدة «اليوم السابع» في تقريرٍ بعنوان «الملاك فيلم إسرائيلي للإساءة لأشرف مروان»، أن الفيلم يتناول قصة أشرف مروان وإبراز صورته على أنه كان عميلًا لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في الفترة ما بين 1969 و1975، وأنه أمد الموساد بالعديد من المعلومات من بينها موعد الضربة العسكرية المصرية الأولى للمواقع الإسرائيلية في سيناء، وصفقات السلاح بين مصر والاتحاد السوفيتي بحكم منصبه الحساس في رئاسة الجمهورية.
بالأمس بدأت «نتفلكس» في إذاعة فيلم «الملاك» عن أشرف مروان المأخوذ عن السردية الإسرائيلية، فهل روج الفيلم فعلًا الرواية المتداولة عن أشرف مروان جاسوسًا لإسرائيل فقط على حساب مصر، وليس عميلًا مزدوجًا؟
«الملاك» .. عميل مزدوج
الرجل الوحيد الذي يتم اعتباره بطلًا في مصر وإسرائيل على حد سواء.
كانت تلك الجملة هي خاتمة الفيلم الذي صدر بالأمس «الملاك» إنتاج عام 2018. لم يكن أشرف مروان رجلًا عاديًا، بل هو صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ووالد حفيده، وأهم مستشاري خلفه الرئيس أنور السادات، وفي الفيلم، ظهر مروان جاسوسًا لإسرائيل في واحدة من أهم فترات التاريخ التي شهدت توترًا عظيمًا في العلاقات الشرق أوسطية، خاض خلالها مغامرات أشبه بتلك التي نشاهدها على الشاشة الفضية، دون أن يعرف أحد حقيقة ما إذا كان يعمل لحساب الموساد، أم لحساب المخابرات المصرية، أو عميلًا مزدوجًا للاثنين معًا.
في بداية الفيلم نرى أشرف مروان في قاعة المحاضرات بإحدى جامعات لندن، إذ يستمع إلى محاضرة عن خوان بوجول جارسيا، وهو عميل مزدوج إسباني معروف باسم «جاربو»، خدع النازيين إبان الحرب العالمية الثانية، وعرفت عمليته بأوسع عملية تضليل في التاريخ ساعدت في انتهاء الحرب؛ وقد كان جاربو من البراعة بحيث تم اعتباره بطلًا نازيًا، حتى أنه تم تقليده الأوسمة من المسؤولين النازيين، ليتصل مروان بالسفارة الإسرائيلية بعدها عارضًا خدماته.

في الفيلم نرى شخصية أشرف مروان مُتخبطة، فهو في عيني والد زوجته (عبد الناصر) لا يستحق ابنته مهما حاول. ينغمس أحيانًا في حياة السهر، يهوى المقامرة، وهو الأمر الذي أجبره في البداية على التواصل مع المخابرات الإسرائيلية في تلك الفترة الحرجة، إلا أنه وبعد أن يصبح واحدًا من أهم رجال السادات، أصبح الرئيس يستعين به في المهام الصعبة، مثل زيارة القذافي واقناعه إمداد مصر بالنفط، حينها يقرر الموساد الاستعانة بخدماته؛ فيجد «الملاك» نفسه فجأة يلعب دورًا مزدوجًا بين دولتين، متورطًا في حرب «يوم الغفران» أو «حرب أكتوبر» كما يطلق عليها المؤرخون العرب، ومصيرها بين يديه.
يقول نيك بريجز عن الفيلم في مقاله بالموقع الإلكتروني «هوليود ريبورتر»، أن الفيلم قصة معقدة مليئة بالأسئلة غير المجابة، مُضيفًا أن التفسير النهائي لما قام به مروان لم يكن مقنعًا تمامًا إلا أن المخرج استطاع أن يضفي عليه بعض التشويق والإثارة، ليجعل القصة ممتعة، ووفق في حدة التوتر التي كانت تتزايد بالتدريج لنقل العواطف المعقدة بشكلٍ فعال.
في حين يخالفه الناقد روجر موري الرأي؛ إذ يرى أن مخرج الفيلم آريل فرومان لم يوفق في رفع حدة التشويق إلى الحد المطلوب، كما أنه صور شخصية مروان وكأنها خالية من الصراعات الداخلية بلا أزمة ضمير حقيقية، حتى وإن كان أظهره بمظهر المقامر في بعض المشاهد، إلا أنه يرى أيضًا أن إنتاج «نتفلكس» قد خرج بشكلٍ أنيق بالنسبة إلى إعدادات مشاهد لندن والقاهرة من حيث الفترة الزمنية.
وعلى الرغم من أن الممثلين لم ينجحوا في التقاط اللهجة المصرية؛ إذ كان هناك خلط واضح بين اللهجة المصرية واللهجات العربية الأخرى، إلا أن الناقد جيمي أو يرى أن اختيار الممثلين في الأدوار الرئيسية كان موفقًا؛ فيشير إلى أن الممثل الهولندي التونسي مروزان كنزاري قد وفق تمامًا في التعبير عن النواحي المعقدة من شخصية أشرف مروان؛ إذ أظهر ما بها من قوة جنبًا إلى جنب مع مشاعر الخوف والعطف، كما أشار إلى أن زوجته – منى جمال عبد الناصر- والتي برعت في دورها الفنانة الفلسطينية ميساء عبد الهادي قد تمكنت من التعبير بدقة عن مشاعر زوجة تشعر بشيء يخفيه عنها زوجها، فتشكك في تصرفاته حينًا، وتستدعيه في مرات أخرى للعودة إلى ذاته القديمة.
«المخابرات».. قصة الأجهزة التي تحكم العالم الإسلامي من الهندي إلى الأطلنطي
أشرف مروان .. الرجل الذي بكى الذئب مرتين
يكمن مفتاح الفيلم كله في مشهدٍ واحد، الأب –هو أشرف مروان– يحكي لطفله الصغير قصة الولد الذي بكى الذئب مرتين كذبًا، وفي كل مرة كان الجميع يهرعون لمساعدته؛ إلا أنه عندما بكاه للمرة الثالثة صدقًا، لم يأت لنجدته أحد.
ويلعب مروان في الفيلم دور هذا الولد؛ إلا أنه كان رجلًا، كذب على الموساد مرتين، من خلال معلومات مغلوطة عن مواعيد غير حقيقية للحرب، وفي كل مرة يتأهب الجيش الإسرائيلي فيها يجد أن الهجوم المزعوم غير حقيقي، إلا أن التأهب قد كلفه الكثير من موارده وأمواله، وعندما أخبرهم بالميعاد الحقيقي للحرب، لم يصدقه أحد، فانتصرت مصر في الحرب، وهو السبيل الوحيد، بحسب الفيلم، لتحقيق السلام في الشرق الأوسط.
في كتاب يوري بار جوزيف «الملاك»، تمت الإشارة إلى أن أشرف مروان، -والذي مات في الحقيقة بطريقةٍ غامضة؛ إذ سقط عبر شرفة غرفته في لندن عام 2007-، كان رجلًا محبًا للسلام، وطامحًا إليه، وأن هذا السبب وحده كان دافعه للجاسوسية، في حين يشير البعض الآخر إلى أنه كان عميلًا مزدوجًا طامحًا إلى المزيد من السلطة والمال.
في الفصل الخاص بالحرب، في كتاب« الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل»، نرى أن الاستخبارات الإسرائيلية تستبعد أن يكون مروان قد عرف بموعد الحرب قبل منتصف يوم الخامس من أكتوبر (تشرين الأول)، وإلا كان أخبرهم بذلك في وقتٍ أبكر، مستشهدًا بأن رأي البعض في أنه كان يعرف موعد الحرب منذ البداية، وأنه تأخر في إبلاغ الحكومة الإسرائيلية بذلك، نابع في الأصل من الرواية العربية للقصة، وأن مروان كان عميلًا مزدوجًا.
أما في الفيلم فنجد مروان جالسًا مع الرئيس المصري حينها أنور السادات يخططان معًا لخطة «الذئب»، أو خطة التمويه العسكري والتي تنطوي على إنهاك الجيش الإسرائيلي، بل وتم تصوير مروان وكأنه هو من اختار يوم الحرب بالتحديد «يوم الغفران»، دلالةً على التسامح، والسلام المرتقب.
لم يكن واضحًا إن كان مروان عميلًا مزدوجًا أم لا، هكذا صرح الكاتب جوزيف بار، والذي كان على اعتقادٍ عميق بأن مناورة مروان للجيش الإسرائيلي كانت في النهاية هي ما مهد الطريق لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن عام 1979.
يحاول جوزيف في كتابه وضع فكرة أن مروان كان عميلًا مزدوجًا عين الاعتبار، مُشيرًا إلى أن هناك ممن يعتقدون أنه عمل لصالح مصر طوال الوقت، منهم أهارون بريجمان وهو عالم سياسي مقيم في المملكة المتحدة، وقد قام بدراسة تاريخ مروان بوصفه جاسوسًا للموساد عن كثب عام 2002، مُصرحًا بأنه ضلل الجيش الإسرائيلي عن قصد.
أشرف مروان الذي عرفته جيدًا، كان بطلًا مصريًا، جاسوسًا مصريًا ضلل الموساد لسنوات بإطعامهم معلومات خاطئة. لقد كان الجوهرة في خطة الدفاع المصرية.
*أهارون بريجمان
استشهد بريجمان بجنازة أشرف مروان عقب موته، مشيرًا إلى أن الرئيس المصري السابق حسني مبارك قد وصفه بـ«الوطني المخلص لبلاده»، ومنحه جنازة مُشرفة في الوقت الذي كانت فيه أخبار عمله جاسوسًا للموساد معروفة للجميع.
أما الرواية المصرية فتم ذكرها في كتاب «العميل بابل: أوهام الموساد وحقيقة أشرف مروان»،إذ يصرح الكاتب عصام عبد الفتاح أن هناك حقائق ومسلمات يجب أخذها في الاعتبار عند تناول تاريخ أشرف مروان؛ إذ يؤكد أنه كان تاجرًا للسلاح، بل على حد وصفه، «أحد أبرز أباطرة هذا العالم الخفي»، وأنه كان يتمتع بنفوذ وعلاقات سياسية مع ملوك ورؤساء العديد من الدول.
أما اليقين الأكبر كما يصفه؛ فكان تربعه على قمة الهرم المخابراتي، عميلًا مزدوجًا لكلا الجانبين المصري والإسرائيلي؛ إلا أنه -وطبقًا للتصريحات المصرية عقب وفاة أشرف مروان الغامضة- كان وطنيًا لا غبار عليه، مُشيرًا إلى أنه قد لعب دور العميل المزدوج إلى صالح مصر، مُضللًا أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وهو ما لا تنكره إسرائيل.
يحمل إطارًا تطبيعيًا أم رسائل مبطنة؟
انتظر جمهور السوشيال ميديا فيلم «الملاك»، بشغف كبير، وتوقع الكثيرون أن يحمل الفيلم طابعًا هجوميًا على أجهزة المخابرات المصرية، بمحاولة إظهار أشرف مروان جاسوسًا إسرائيليًا عمل لصالح الموساد، وحاول إنقاذهم من مصير حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 بكافة الوسائل، إلا أن الفيلم قد فاجأ الجميع بتقديم مروان عميلًا مزدوجًا ساعد مصر على كسب الحرب، كما ساعد إسرائيل على تجنب خسائرها الفادحة في الأرواح والأموال، وذلك من أجل تحقيق السلام بين البلدين، والذي كللته اتفاقية كامب ديفيد عام 1979.
يشير محمد المنشاوي، وهو متخصص في السياسة الأمريكية عبر صفحته على «فيسبوك» إلى أن الفيلم على الرغم من أنه يحمل إطارًا تطبيعيًا بين العرب والإسرائيليين، إلا أنه في الوقت ذاته يحمل عمقًا أكبر من التطبيع، قائلًا: «أضع فيلم الملاك والذي شاهدته بالأمس في إطار أوسع من الجهود المتكررة التي لا تتوقف عن تطبيع العلاقات بين العرب والإسرائيليين»، مُضيفًا أن أهم رسائل بالنسبة إليه كانت في إظهار جمال عبد الناصر في مظهرٍ رجعي سواء فكريًا أو عائليًا، مُشيرًا إلى أن الفيلم تعمد إظهار القذافي في مظهرٍ ساخر، وكأنه يُشكك في القيادات العربية. كما بالغ الفيلم في تصوير شخصية أشرف مروان بوصفه مفكرًا سياسيًّا فذًا من طرازٍ فريد كل ما كان يريه هو حقن دماء الأبرياء وتحقيق السلام بين البلدين.
لم ينتقد الفيلم المخابرات المصرية، بل على العكس من ذلك، أظهرها بمظهرٍ إيجابي، وهو الشيء الذي وجده بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي مُلغزًا وغير مفهوم: فيقول عن ذلك الصحفي سيد الحديدي على صفحته بـ«فيسبوك» أن الفيلم لم يتبنَّ وجهة النظر الإسرائيلية مكتملة، مُضيفًا أنه يصور مروان وطنيًّا مخلصًا لبلده في أكثر من موضع.
الفيلم لا يعبر عن الكتاب الإسرائيلي بدقة، هكذا صرح موقع «Time»، وذلك من خلال تحليله للفيلم مقارنةً بالرواية، مُشيرًا إلى أن الفيلم يبيض وجه مروان باعتباره بطلًا قوميًّا في إسرائيل، ساعد بنفسه في منع جماعة أيلول الأسود الفلسطينية من تفجير الطائرة الإسرائيلية المتوجهة إلى تل أبيب من روما؛ إذ أزال جزءًا صغيرًا من السلاح يمنع الصاروخ من الانطلاق قبل تسليم جماعة أيلول الأسلحة، التي طار بها بنفسه، واضعًا إياها في حقائب دبلوماسية، وذلك بعد أن أرسل عائلته بعيدًا إلى جنيف ليكونوا في مأمن؛ وهو ما أنقذ حياة الكثير من المدنيين الإسرائيليين.
تأتي رواية جوزيف بار مختلفة عن ذلك كليةً؛ إذ يصرح أن مروان قد أرسل الأسلحة إلى الجماعة عبر زوجته في حقائب دبلوماسية كانت تحملها، قائلًا: «كانت منى قد خططت للسفر إلى لندن، ولكن بناءً على رغبة زوجها، قامت بمقابلته في روما، كانت منى غير مدركة تمامًا للخطة ولا محتويات الحقائب»، وبعدها نسق مروان مع السلطات الإيطالية للقبض على جماعة أيلول الأسود، وهو ما لا يتضمن وجوده في موقع الحادث.
كما صور الفيلم شخصة أشرف مروان باعتباره شخصًا فقد كل شيء من ضمنهم عائلته من أجل السلام المنشود بين مصر وإسرائيل، إذ انفصلت عنه زوجته في النهاية دون طلاق بعد أن راودتها الشكوك تجاهه، وإن كان يشير جوزيف إلى أن أشرف لم ينفصل عن زوجته حتى وفاته عام 2007.
أما بالنسبة لمسألة علاقته بممثلة إنجليزية تدعى ديانا كانت تقدم له المساعدات داخل لندن، فقد كشف جوزيف عن أنه لم يرد ذكر أية شخصية نسائية في تاريخ أشرف مروان أثناء عمله للموساد قد قدمت له المساعدات.
The post هل يزيل فيلم «الملاك» الحيرة حول أشرف مروان أم يزيدها؟ appeared first on ساسة بوست.