الفيلم الذي طال انتظاره «Dalida» كان يمثل للبعض فرصةً للالتقاء بالماضي، والجلوس وجهًا لوجه مع الذكريات، والارتواء برشفات هنيئة من كأس النوستالجيا، والحنين لماضٍ ممتد منذ الخمسينات وحتى الثمانينات.
داليدا، الأسطورة الفنية التي لا تقارن إلا بمثلها من الأساطير، أم كلثوم في مصر، وإديث بياف في فرنسا، وماريا كالاس في إيطاليا. داليدا، المغنية، والممثلة، والراقصة، والعاشقة، والأنثى، المليئة بحب الحياة والجنون والمتناقضات، التي دفعتها دفعًا في النهاية إلى الموت بشكل لا يعبر إلا عن مأساة حزينة.
ولدت داليدا عام 1933 في مصر لعائلة من المهاجرين الطليان، واسمها الأصلي «يولاندا كريستينا جيليوتي»، ونشأت في حي شبرا، وكان والدها يعمل أستاذًا لتعليم آلة الكمان، ثم قام الإنجليز بالقبض عليه بتهمة التعاون مع الألمان، إبان سنوات الحرب العالمية الثانية. قبل أن تنتقل مع عائلتها إلى فرنسا حيث بدأت مسيرتها الفنية على مدى عقود ثلاثة بعد أن اكتشفها «لوسيان موريسي» – المنتج وصاحب واحدة من أكبر الإذاعات الأوروبية وقتها-، غنت فيها أكثر من 500 أغنية بلغات متعددة، منها العربية والإيطالية والفرنسية والعبرية واليونانية والإنجليزية والإسبانية والألمانية وحتى اليابانية. اختارت لنفسها في البداية اسم «دليلة» كاسم للشهرة، إلا أن أحد أصدقائها في الوسط الفني نصحها بتغييره لأنه ربما يكون عدائيًّا للبعض – دليلة، الفتاة اليهودية في قصة شمشون ودليلة الشهيرة بالعهد القديم-؛ لذلك قامت بدمج اسمها يولاندا مع اسم دليلة، في اسم شهرتها التي ستعرف به للأبد: داليدا.
المخرجة الفرنسية «ليسا أزولوس» قدمت لنا قصة حياة داليدا في تحفة سينمائية بديعة عبر ساعتين وأربع دقائق من الأداء التمثيلي المكثف والراقي، والمشاهد السينمائية الاستثنائية، مع وجبة مشبعة من موسيقى وأغاني داليدا الأصلية التي لم تمتد إليها يد بتعديل، أو إعادة ترتيب، أو التدخل بمؤثرات.
قامت ببطولة الفيلم الذي عرض مؤخرًا، الممثلة الإيطالية الجميلة «سفيفا ألفيتي» التي أدت باقتدار دور القامة الإنسانية الكبيرة «داليدا»، بكل عظمتها الفنية، وتاريخها الممتد. وفي نفس الوقت مع كل ما يعتري نفسها من مشاعر متناقضة، من بين حب شديد للحياة في أحيان، وكره كبير لها في أحيان أخرى. بين الوقوع في الغرام في ثانية، وزهد منه في ثانية أخرى، بين استمتاع بالوجود بين الناس، ثم الرغبة في الابتعاد عنهم تمامًا.
ألفيتي بملامحها القريبة للغاية من ملامح داليدا، وبتمكنها من عناصر الأداء، استطاعت تقديم شخصية داليدا بقدر مذهل من الإقناع، أضيف إليه الأجواء البصرية والسمعية الملائمة التي وفرتها المخرجة بعناية ظهرت في كل التفاصيل، الملابس والديكور ومواقع التصوير… إلخ، التي صاحبت مراحل تكون شخصية داليدا – الشابة- منذ الخمسينات حتى الثمانينات.
اخترت أن أشاهد داليدا في سينما الزمالك – وفي هذا الحي العريق الممتلئ بالثقافة والجمال سينما واحدة فقط، افتتحت مؤخرًا بعد أن خلت الزمالك من الشاشات الفضية لسنوات طويلة-، كان عرض «داليدا» في دار سينما الزمالك مختلفًا تمامًا عن أي دار أخرى، نظرًا لطبيعة الجمهور المرتاد لتلك القاعة الضخمة، معظم الجمهور من روائح الطبقة الأرستقراطية القديمة، عائلات وأصدقاء أغلبهم فوق الستين، تدفقوا على السينما في ملابس أنيقة تستدعي ترتيبات قديمة تختص بالإيتيكيت كان يتلفت إليها بعناية عند الذهاب إلى السينما أو المسرح، متضمخين بعطور غالية تطايرت بكثافة في بهو دار السينما، مع كلمات من هنا وهناك أغلبها بالفرنسية والإنجليزية مع كلمات عربية قليلة.
جلست في قاعة السينما، التي هي في الأصل قاعة مسرح فخم وضخم جدًّا، تم إعادة ترميم أثاثه وديكوره المصمم على طراز الآرت- نوفو القديم، وعن يميني سيدتان تجاوزتا السبعين من العمر، نصف حديثهما بالفرنسية ونصفه بالعربية، يتحدثان بلهجة مهذبة للغاية وبصوت هامس – لم ينجح خفوته في إثناء فضولي عن استرقاق السمع-، وعن يساري سيدة وزوجها في أواخر الخمسين من العمر، جلسا طوال فترة العرض – وحتى فترة الاستراحة- دون أن ينبسا بكلمة. طوال العرض لم يخرج أحد من يميني أو يساري هاتفًا محمولًا قط، ولم يداعب أحد شاشة تعمل باللمس قط، ولم أر لوجو فيسبوك الأزرق يتألق في ظلام القاعة في تلك البقعة قط. كان هناك اهتمام حقيقي وشغف بمتابعة هذا الفيلم تحديدًا.
السيدة عن يميني قالت لصاحبتها: «أما نشوف بقى ست داليدا اللي كانت قالبة الدنيا زمان».
وعندما بدأت أحداث الفيلم، كانت السيدة تهمس بحماس وسعادة طفلة في السابعة: «شوفي، فاكرة الرقصة دي»، أو «ياه فاكرة الغنوة دي»، أما صديقتها فكانت تدندن بالفرنسية والإيطالية مع الأغاني التي صاحبت الشريط الصوتي للفيلم طوال مدة العرض: بامبينو، جي سوي مالاد، بانج بانج، تشاو تشاو بامبينا، وأيضًا سلمى يا سلامة، وحلوة يا بلدي.
كنت أشعر أن داليدا قد بعثت في تلك اللحظة في سينما الزمالك وسط جمهور ارتبط بها من قبل، وجمعته بها علاقة خاصة وحميمة، لم تجمعنا نحن جيل الشباب بتلك الفاتنة الغامضة ذات الصوت الساحر. كانت تغني وترقص على أرض الزمالك بالفعل، وسط سيدات ورجال حلموا يوما أن يصبحن مثلها، أو ينالوا فتاة أحلام على شاكلتها.
اختارت ليسا أوزلوس إيقاع منتظم لأحداث فيلم، كل عشر دقائق تقريبا تمر داليدا بحدث مهم، يتم ترجمته لأغنية –سواء قامت هي بكتابتها أو اختارت كلماتها من أغاني تعرض عليها-، مما أثرى الفيلم بشدة وأكد طبيعة التوحد الذي كان بين تلك الشخصية وتاريخا وسيرتها وفنها وموسيقاها، حتى صاروا شيئا واحدا.
وقعت داليدا في الحب مرات كثيرة، أحبت صاحب الإذاعة وتزوجته، ثم تركته بعد أن تعرفت على مغني ناشئ، وبعدها ارتبطت بشخص ذو أصول ملكية أوروبية، وفي كل مرة كانت تترك داليدا حبيبا من أولئك، حتى كانت الدنيا تسود في وجهه وكأن كل أكسوجين الحياة وكل بهائها قد ذهبوا إلى الأبد.. انتحر الثلاثة، وفي النهاية انتحرت داليدا نفسها بعد عجزت عن إيجاد مغزى لهذه الحياة، وشعرت بعبثيتها التامة وعدم وجود معنى لأي شئ، لا السعادة تدوم، ولا الحب يبقى، ولا النجاح والشهرة يطمئنان قلبها. تناولت في إحدى الليالي جرعة زائدة من الاقراص المهدئة، وفي الصباح وجدوها وقد فارقت الحياة وبجانبها رسالة تركت فيها الكلمات التالية: «سامحوني، الحياة لم تعد تحتمل».
The post سامحوني الحياة لم تعد تُحتمل! عن فيلم «Dalida» appeared first on ساسة بوست.