تثير الموسيقى والإضاءة والصورة والحوار في الفيلم مشاعر كثيرة لدى المشاهد، وتدفعه إلى التأمل الداخلي، وتطرح أمامه قضايا وحلولًا للمشكلات، وقد حرص بعض المعالجين النفسيين على توظيف هذه المشاعر في علاج المرضى النفسيين، فرديًا أو جماعيًا أو على مستوى الأسرة بحيث تستخدم أحيانًا في حل المشكلات الأسرية.
يستخدم الأطباء في العلاج النفسي المجاز والرمزية والصور أحيانًا لتفسير الأحلام لاستشكاف الأفكار والمشاعر ومعالجة القلق لدى المرضى، والأفلام تتضمن هذه العناصر وتجمع إليها المتعة، وتسمح للمشاهد باستكشاف رغباته ومشاعره وتثير لديه التعاطف وتزيد مهارات التواصل، وهذا ما دفع كثيرًا من الأطباء النفسيين لإدخالها لتكون جزءًا من العلاج، ويميز هذه الطريقة أنها في المتناول وتبقى أمرًا ممتعًا للجميع.
تم استخدام مصطلح «العلاج بالسينما» لأول مرة عام 1990 في مقالات حول علم النفس ويعني استخدام المتخصص للأفلام في العلاج، ونشرت مارشا سينيتار بعد ذلك كتاب «شريط الطاقة: النمو الروحي عبر الأفلام» عام 1993 ناقشت كيفية استخدامه، بحيث يختار المعالج أفلامًا معينة ليشاهدها المريض وحده أو مع جماعة، ويتفق مسبقًا مع المريض حول كيفية مشاهدة الفيلم مشاهدة واعية، وقد يمدّه بعدد من الأسئلة المبدئية وتُجرى لاحقًا جلسة مع المعالج للإجابة عنها ومناقشة الانفعالات التي أثارها الفيلم وأوجه التشابه بين الفيلم وحياة المريض.
Embed from Getty Images
تشارك الزوجين في مشاهدة الأفلام ينمي لغة الحوار بينهما.
من خلال مشاهدة الفيلم يختبر المريض عدة مشاعر؛ الخوف والدهشة والإثارة والحزن والفرح، وتُطرح أمامه حلول للمشكلات، ولهذا فوائد علاجية متعددة، تتحقق كلها في إطار من الترفيه، كما أنها توفر الأمان لبعض المرضى الذين يجدون تخوفًا من الحديث عن معتقداتهم ومشاعرهم للتعبير بشكل غير مباشر عنها من خلال مناقشة أحداث الفيلم. وتكشف أحيانًا للمريض مشكلاته التي قد لا يتصورها من خلال نموذج يجده في الفيلم، كأن يكون في علاقة مسيئة مع أحد الأفراد.
تمتد جذور العلاج بالسينما في الثقافات القديمة؛ منذ الإغريق الذين كتبوا على المكتبات «مكان شفاء الروح»، وحتى استخدام القراءة والروايات في العلاج النفسي.
يؤكد بيرجيت وولز المعالج بالسينما في أوكلاند بكاليفورنيا، ومؤلف كتاب «العلاج بالسينما: دليل للمساعدة الذاتية لاستخدام الأفلام في الشفاء والنمو» أنه ليس هناك تعريف واحد للعلاج بالسينما، وأن هناك عدة طرق لاستخدامه، منها فهم حالة المريض ثم التوصية بمشاهدة أفلام معينة، ومنها العلاج القائم على البكاء أو الضحك لدى مشاهدة الفيلم والذي يمكّن المعالج من فهم المشاعر الداخلية للمريض.
يقول جاري سولومان أستاذ علم النفس بكلية المجتمع في نيفادا الجنوبية إن العلاج بالأفلام فعال مع كل أنواع المرض النفسي ما عدا الاضطرابات الذهانية، ويؤكد أنها طريقة فعالة يمكن أن يقوم الفرد فيها بمساعدة نفسه بنفسه، فضلًا عن فعاليتها في وجود متخصص.
كما يؤكد الاستشاري النفسي وعضو الكلية الملكية للعلاج النفسي لايكس هايغ إنها أسلوب بديل لطرق العلاج التقليدية وتفيد الأشخاص الذين لا يمكنهم التعبير عن مشاعرهم بسهولة، وقد أوضحت الكلية أن هذه الطريقة «أداة مساعدة مفيدة للإرشاد النفسي».
كيف يمكن استخدامها؟
أفضل استخدام لهذه الطريقة كعلاج مكمل يكون بإرشاد من المعالج النفسي، لكن يمكن استخدامه أيضًا – إلى جانب القراءة – في المساعدة الذاتية نحو التغيير الإيجابي.
المعالج النفسي بيرني وودر أحد من يستخدمون العلاج بالأفلام، وهو يؤكد أن العلاج بهذه الطريقة لا يناسب كل المرضى، لكن نسبة 90 بالمائة منهم يستجيبون له بشكل كبير، ويمكن القول إن فيلمًا بعينه غيّر حياة كل منهم حتى دون أن يدركوا ذلك، إذ تمكّن هذه الطريقة المريض من مواجهة المشكلات التي يعاني منها ويتعرف على حلول ممكنة لها، استخدم وودر فيلم «السقوط» ليوضح للمريض خطورة عدم معالجة مشاعر الغضب لديه، وفيلم «على الواجهة البحرية » في مساعدة مريضة كانت تجد صعوبة في التعبير عن مشاعرها، وفيلم «زفاف موريل» في علاج المرضى الذين يعانون من انخفاض تقدير الذات.

علاج الإدمان
في معهد أنتون بروكوش في فيينا وهو أحد أكبر عيادات علاج الإدمان في أوروبا، يُستخدم العلاج بالأفلام في حل مشكلات المرضى التي تتعلق بإدمان المشروبات الكحولية والمخدرات وألعاب الفيديو، باستخدام أفلام مثل «يوم فأر الأرض» و«جمال أمريكي » و«طعام صلاة حب».
Embed from Getty Images
إدمان ألعاب الفيديو أحد الجوانب التي يمكن أن تعالجها مشاهدة الأفلام.
وقد حرص مارتن بولتر الطبيب النفسي بالمعهد على استخدام أفلام تتناول العلاقات الإنسانية إذ يؤكد أنها تسوء في الغالب بسبب تورط المريض في الإدمان، ويكون من المُجدي بثّ الأمل فيه من جديد في إمكانية بناء علاقات حب ناجحة مع المحيطين به، وتغيير نمط حياته.
حل المشكلات الأسرية وتربية الأبناء
وجدت دراسة حديثة إمكانية خفض نسبة الطلاق في السنوات الأولى عن طريق استخدام الأفلام، وقاموا بعمل تجربة حددوا فيها مجموعة من 49 فيلمًا ليشاهده الزوجان معًا – فيلم واحد أسبوعيًا – ويناقشان بعده عددًا من الأسئلة لمدة 40 دقيقة تقريبًا، كان أولها فيلم «اثنان للطريق» وغيرها من الأفلام التي تتناول موضوعات الحب في مرحلة الشباب والخيانة وضغوط الحياة.
ولاحظ القائمون على التجربة حدوث تغيير إيجابي في التعامل بين الأزواج فأصبحوا يتواصلون بشكل أكثر فعالية بعد مرور خمسة أسابيع، إذ أفادت هذه الطريقة في الحد من شعور الوحدة الذي يتسلل إلى الطرفين بسبب عدم قدرتهما على التواصل في بدايات الزواج، وطرحت أمامهما طرقًا متعددة لحل المشكلات وتنمية لغة الحوار وتعلم كيفية العمل معًا كفريق واحد.

استخدم بيرني وودر أفلام السينما في حل المشكلات المتعلقة بتربية الأبناء مؤكدًا أن كثيرًا من هذه المفاهيم تم استخلاصه عبر السنوات من خلال الأفلام التي تقدم نماذج أسرية مختلفة، وتناقش قضايا متعددة؛ فيلم البحث عن نيمو يستعرض حياة أرمل يربي طفله، ويثير التساؤل حول ما إذا كان منح الثقة للأبناء أفضل أم إحاطتهم بالرعاية الزائدة.
فيلم السيدة داوتفاير يناقش علاقة الأب بأبنائه الذين يعيشون في حضانة الأم، وكيفية التقارب بينهم، يختلط الخيال هنا بالواقع لكن يبقى من الممكن استخلاص الدروس المهمة، وفيلم المربية ماكفي الذي يتناول أساليب تربوية لتقويم سلوك الأطفال.
تجارب شخصية في العلاج بالأفلام
تحكي مورين ماكوك وهي مريضة بالاكتئاب لصحيفة التليجراف أنها أُصيبت به عقب زواج فاشل واستخدمت فيلم «مولان روج» أو «الطاحونة الحمراء» في العلاج، وأدركت من خلال تأمل المشاهد الرومانسية في الفيلم أنها لم تكن تحب زوجها السابق في الحقيقة، وتمكنت من فهم مشاعرها نحو الآخرين بعمق واستخلصت الكثير من الدروس.
رايل كارتر إحدى المريضات، تحكي أيضًا عن تجربتها في التخلص من مشكلات عاطفية كانت تعاني منها من خلال جلسات مع أحد المعالجين، استخدم فيها الأفلام وبينها فيلم بيلي كاذب الذي كشف لكارتر أن بطله بيلي الذي يحلم كثيرًا دون أن يسعى لتحقيق أحلامه في الواقع يشبهها وأن لديها مشكلاته نفسها.
The post السينما شفاء الروح.. هل يمكن للأفلام أن تعالج أمراضنا؟ appeared first on ساسة بوست.