Quantcast
Channel: سينما –ساسة بوست
Viewing all articles
Browse latest Browse all 367

درجة غليان المصريين.. عرض لفيلم «في يوم»

$
0
0

على الرغم من أن مدة عرضه لا تتجاوز الـ63 دقيقة، إلا أن فيلم «في يوم» نجح ببراعة في تجسيد لحظات القلق والتوتر والغليان التي تعتري الشخصية المصرية المعاصرة، متجسدة في حياة سبعة أشخاص يمرون بلحظات من مناجاة النفس، ولوم الذات، وعصف الأفكار، واسترجاع الذكريات، كل ذلك خلال عدة مواقف تمثل شذرات متفرقة تدور كلها خلال يوم واحد فقط من حياة المجتمع المصري بتدافعه، وسريانه، وتقلباته التي لا تتوقف.

الفيلم يعد الشريط السينمائي الأول للمخرج الشاب كريم شعبان، والذي لفت الأنظار إليه بعد تكريمه في مهرجان القاهرة السيمائي الدولي هذا العام، ليحوز شهادة تقدير الدورة الـ37 من المهرجان، وليصبح بذلك المصري الوحيد الذي يحصد جائزة ضمن سبع مشاركات مصرية في مسابقات المهرجان المختلفة.

وتدور أحداث سيناريو الفيلم الذي تشارك في كتابته شادي عاطف، وسامح خيري حول سبع أرواح معذبة، لا نعرف أسماءهم، لكن نسمع دوران أفكارهم، ونرى ملامح وجوههم المثقلة بالهموم.

«الصنايعي» المهاجر الذي يترك والدته وحدها من أجل لقمة العيش، ويدفع كل ما يملك من نقود شحيحة لأحد سماسرة الهجرة على أمل أن يجد عملًا في بلاد ما رواء الصحراء؛ ليستطيع أن يعيل نفسه ووالدته. والزوج المجروحة كرامته بعد أن أهانه أحد الضباط بقسوة، فلا يستطيع أن يرفع عينيه في وجه زوجته أو ابنه. والكهل الذي يعيش في شقة صغيرة أشبه بعلبة كبريت، وحيدًا بعد أن قضى أغلب عمره في العمل بالحكومة، لتعطيه في النهاية جنيهات قليلة، ومكافأة هزيلة بعد خروجه على المعاش. والطبيبة التي تعمل في مستشفى فقيرة، وتتنازعها المخاوف حول مصير المرضى الذين لا تجد لهم أسرة، أو أدوية، أو عناية ملائمة في ظل لا مبالاة مدير المستشفى الصادمة. والأم المكلومة التي تفقد ابنها في حادثة إستاد بورسعيد، وتبدو وكأنها ما تزال حبيسة مرحلة الصدمة، غير مستوعبة ما حدث بعد، والفتاة الرقيقة التي تتعرض لموقف تحرش جنسي قاسٍ لا تستطيع أن تقرر كيف تواجهه، وكيف تستكمل حياتها معه. وأخيرًا التربي الفقير، عامل المقابر الذي يعيش وحيدًا، ويعمل وحيدًا بين الأموات، فلا تعلم هل هو حي أم ميت؟ هل هو إنسان أم شبح؟

لا توجد «دراما» مكتملة في الفيلم، ولا توجد قصص، أو حبكات تقليدية. الفيلم عبارة عن خيوط مستمرة من الذكريات تخاطب وعي المتلقي؛ تمضي في رتم واحد يعبر عن وحدة، وألم، ومخاوف، وعصبية، وانكفاء، وغضب، وفقد، وجرح، وحيرة، وصدمة، وندم، وشرخ، مصحوبة بموسيقى ملهمة للمؤلف والموزع الموسيقى خالد الكمار الذي سبق وشارك في أعمال كبيرة مثل «أفراح القبة»، و«ديكور»، و«لامؤاخذة». الموسيقى التي تعتبر بجدارة أحد أهم أبطال العمل، مزجت آلات العود و«الفيولينة» و«التشيلو» و«الفلوت» في مجموعة ألحان شديدة العذوبة، ساندت مشاعر الأبطال في توليفة غنية للغاية.

الشريط الصوتي للفيلم كان مفاجئًا؛ لأنه عوض غياب الحوار بين الشخصيات (إلا فيما ندر استدعاء أفكار بصوت عالٍ أو جمل قصيرة للغاية تدور أيضًا في ذهن هذه الشخصية أو تلك) بأن نقل لنا بحساسية بالغة كل صوت، مهما كانت درجة انخفاضه، ما دام موجودًا في محيط الشخصيات.

«الكادرات» كانت تملؤها أصوات حفيف الهواء الملامس لانطلاق سيارة البطل المجروح، وكرمشة الكيس البلاستيكي الذي يجمع صور وذكريات الأم المكلومة، وطقطقة براد الشاي الذي لا يملأ أكثر من كوب شاي واحد للمُسن الوحيد، وهدهدة حبات الرمل التي تذروها الرياح في صحراء شاسعة يقطعها «الصنايعي» الفقير، وخشخشة دانتيل فستان الفتاة العذراء التي وقعت ضحيةً لتحرش شاب، ولظلم مجتمع، وإيقاع أقدام الطبيبة وهي تمشي ببطء في الممر الخاوي لمشفاها الفقيرة، وصليل مفاتيح أحواش المقابر التي يتحمل عبء حراستها والإقامة فيها ذلك التُربي البائس.

وفي مجموعة لقطات «سريالية» موزعة على طول مدة الفيلم، تمضي في كادرات قصيرة متقطعة جنازة غريبة، الشخصيات الستة مسربلين في ملابس سوداء، ويحملون نعشًا أسود أيضًا تتدلى منه لمبات مطفأة. يمشون في خطوات بطيئة في صمت مقفر، وعلى وجوههم تعابير صماء، في طريقهم داخل المقابر نحو الشخصية السابعة «التربي»، الذي جهز للتو سبعة مقاعد في أحد الأحواش، منتظرًا الجنازة وهو ينظر من حين لآخر لأفق غير معلوم، نظرة هائمة حينًا، وذاهلة حينًا، وساخرة أحيانًا أخرى.

المشهد مقارب للمشهد الافتتاحي لفيلم «وهلّأ لوين» للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، حيث تخرج نساء الضيعة، مسلمات ومسيحيات، متشحات بالسواد في مسيرة جنائزية تنعي مصير قريتهم التي قطعت الطائفية والتعصب أوصالها، إلا أن مشهد الجنازة في فيلم «في يوم» يعبر عن ومضات الأمل التي انطفأت، ولم يعد لحياتها جدوى، و«الأكرم للميت دفنه».

الفيلم احتوى عدة مشاهد أيقونية لن تُنسى، تعاون في إخراجها كاميرا هابي خليل، وديكور زياد فيروز، وملابس شيماء فاروق. مشاهد المهاجر اليائس في الصحراء بنظراته المتوسلة الباحثة عن مخرج، ومشاهد الطبيبة المتقوقعة على ذاتها في وضع جنيني على أحد الأسرة بالمستشفى، ومشهد الوالدة المكلومة التي تبدو في ملابسها السوداء وطرحتها المنسدلة مثل السيدة العذراء تجتر فقدان مسيحها، ومشهد الفتاة ضحية التحرش وهي تؤدي ما يشبه نصف رقصة تدور فيها بخطوات رشيقة، لتدور معها تنوراتها الدانتيل في احتفال بسيط بالأنوثة، يبدو كوسيلة احتجاج وحيدة ضد قسوة المجتمع.

أبطال فيلم في يوم، شخوص وحيدة، تتملكهم فكرة مركزة تسيطر على كل مشهد من مشاهدهم، على سبيل المثال الفكرة الوجودية: «من أنا؟»، التي تسألها الطبيبة الشابة لنفسها، والتي تصر معها على الحياة في مصر رغم سفر أبويها؛ عبثًا تريد أن تحدد مصيرها بنفسها رغم كل شيء، وفكرة الضياع التي يمثلها الصنايعي المهاجر، كموسى في أرض التيه، حيث يرسم بعد يأسه خطًّا على الرمال يفصله عن بلده إلى الأبد. وفكرة مواجهة المجتمع والثورة على أعرافه، هل تواجه الفتاة المتحرش، أم تسكت وتداري على «فضيحتها»؟!

جميع أبطال الفيلم عرضوا ببراعة مهارات مسرحية وتمثيلية على أعلى مستوى، مع استخدام راقٍ للغة الجسد، وتعبيرات الوجه. لانا مشتاق، وعلي قنديل، ورأفت بيومي، ووفيق أبو السعود، وفاطمة كمال، ونورا سعفان، ومصطفى درويش، ونادين إميل جميعهم واجهوا ذلك التحدي بملء 63 دقيقة من الفراغ الحواري بمنتهى الجسارة؛ مما يجعل «في يوم» ليس مجرد تجربة رائدة على مستوى الأفلام المستقلة المصرية، ولكنه عمل فني فذ يبشر بمستقبل رائع لجميع صنّاعه.

The post درجة غليان المصريين.. عرض لفيلم «في يوم» appeared first on ساسة بوست.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 367

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>