تبعًا لتقرير أصدره «المركز الوطني للأطفال المختفين والمعرضين لإساءة الاستغلال»، يختفي أو يُفقد كل عام ما يزيد عن نصف مليون طفل حول العالم، 40 ألف منهم يفقدون في الهند وحدها، واحد فقط منهم يحكي فيلم «ليون» قصته المقتبسة عن أحداث حقيقية وقعت لطفل فقير يدعى «سارو»، يبلغ من العمر خمس سنوات، ويعيش مع أمه وأخيه وأخته في إحدى المدن الفقيرة وسط الهند الشاسعة، حيث يساعد أمه في العمل بأحد المحاجر، يحمل معها الحجارة، ويأتي إليها بالطعام، الذي أحيانًا –من شدة الفقر والجوع – ما يختطفه خلسة هو وأخوه الأكبر من سوق قريبة.
بداية المأساة
تبدو هناك علاقة قوية بين الأخ الأكبر «جودو» وأخيه الأصغر سارو، لا يكادان يفترقان، وعلى الرغم من الحياة الفقيرة يبدوان سعيدان بأقل الأشياء، المشي في الشوارع، واستكشاف محطة القطار، وتسلق خزان المياة، والرقص على قدم واحدة.
تنقلب حياة سارو (يؤدي دوره الطفل الهندي الموهوب «صاني باور») رأسًا على عقب في أحد الأيام التي كان هو وأخوه يلهوان فيها في محطة القطار القريبة، حينما طلب منه أخيه الانتظار في عربة متوقفة لقطار؛ ريثما يأتيه بطعام. ينام سارو في عربة القطار من إجهاد يوم طويل؛ ليستيقظ فيجد القطار وقد تحرك، يبحث عن أخيه في كل مكان في العربة الخاوية، لكن جودو ليس موجودًا؛ إذ يبدو أن القطار قد انطلق قبل رجوع أخيه إليه.
يصرخ سارو، الطفل الجميل، واسع العينين، كحيل الرموش، أسود الشعر، دقيق الملامح، باسم أخيه مرارًا وتكرارًا، ويصرخ طالبًا المساعدة من أي شخص قد يسمعه، بلا جدوى. يظل في القطار أيامًا يقطع آلافًا من الأميال عبر الهند، يأكل فتات الطعام الذي يجده تحت مقاعد عربة القطار، ويبيت أعلى رف الأمتعة، وينتظر أن يصل القطار إلى محطة النهاية.
غريب في بلاد غريبة
وفي مصاحبة موسيقى «فولكر بيرتيلمان» و«داستن أوهارولان» شديدة الجمال والحساسية والحزن – المرشحة لجائزة الجولدن جلوب – تبدأ رحلة ضياع سارو نحو المجهول. يصل القطار أخيرًا بعد أن قطع أكثر من خمسة عشر ألف كيلومتر إلى مدينة كلكتا، عاصمة ولاية البنجال الشرقي المحاذية لبنجلاديش، يهبط من القطار، ويسأل كل من يقابله في المحطة المزدحمة أن يدلوه على طريقه لأمه والرجوع لمنزله، لا يبدو أن أحدًا يفهم كلامه، حيث الكل يتحدث اللغة البنجالية هنا، ولا أحد يفهم اللغة الهندية، وبعد إرهاق طويل ويأس من إمكانية التواصل مع أي شخص، يجد سارو عدة أطفال صغار في ملابس بالية ووجوه متسخة، يفترشون أحد الأنفاق القريبة من محطة القطار، ينضم إليهم بعد أن منحه أحدهم «كرتونة» صغيرة؛ ليقوم بفرشها والنوم عليها. يمدد سارو جسده الصغير الضئيل على أرضية النفق الباردة، ويسرى عن نفسه باستدعاء صور في أمه وأخيه جودو في ذهنه، يبدو شديد الحساسية والرهافة وهو يتمتم في سره «سامحيني يا أمي، أنا آسف». لا تكاد عيناه تغفلان حتى يفزع على صراخ باقي الأطفال الذين هاجمتهم عصابة لخطف الأطفال. يسلم سارو ساقيه للرياح، يبدو وهو يجري أميالًا عدة فزعًا وهربًا من وحشية قاطني المحطة، مثل الصغير «فورست جامب» في رائعة «روبرت زيمكس»، وهو يجري من أقرانه المتحرشين به وبإعاقته، بينما صديقته «جيني» تصرخ بالجملة الأيقونية «اجر يا فورست.. اجر»، مع الفارق أن في حالة سارو لا توجد جيني، طفل صغير وحيد في مواجهة الحياة.
يلمح سارو معبدًا قريبًا، يتجه إليه، حيث حجاج المعبد نائمين في حضرة تمثال كبير للآلهة «ما دورجا» متعددة الأذرع، والتي تنيرها الشموع وتنير من تحتها القرابين من الفاكهة والأطعمة الأخرى. يؤدى سارو التحية لتمثال الآهلة في احترام، ثم يتناول من الطعام، ويجلس في أحد أركان المعبد؛ ليسد جوعه.
أمل زائف
في الصباح يصادف فتاة جميلة، تلاحظ خطواته التائهة ونظراته الشاردة، تكلمه بالبنجالية فلا يرد عليها، ثم تخاطبه باللغة الهندية فيتهلل وجهه، أخيرًا هناك أمل. تقدم له نفسها باسم «نور»، ثم تأخذه إلى منزلها، حيث تقدم له الطعام، وتقوم بمساعدته على الاستحمام، وتخبره أن رجلًا سيأتي في الصباح ليساعده في الوصول لأمه.
وفي الصباح لا يرتاح سارو للرجل، لا للمساته ولا نظراته وطريقة كلامه، ووعوده الملتوية بالذهاب إلى مكان ما سيبدأون منه البحث عن أهله. يتسرب شعور فطري بالخطر إلى سارو فيقوم بالهرب من منزل نور.

يستطيع مخرج الفيلم «جارث ديفيس» ببراعة تقديم «مأساة» طفل ضئيل تائه في هذا العالم الكبير، حيث لا أمل في العودة لبيته وحضن أمه، حتى لو كان سيرجع إلى حياته الفقيرة، لكن انقطاع صلة إنسان في هذا العمر المبكر عن أسرته يعني ضياعًا حقيقيًا، متاهة رهيبة، نجح المخرج في نقل المشاعر الدرامية التي تصاحب الوقوع في شركها للمتلقي الذي يضع نفسه أو أبناءه مكان سارو، حيث الرعب هو الشعور الوحيد، الرعب من فقدان العالم الذي اعتدته، والتيه في عالم لا تعرف عنه شيئًا.
وأمل حقيقي
من مكان لآخر يمضى سارو بلا هدف، وينتهي به الأمر في دار للأيتام، حيث يتحسن حاله قليلًا، على الأقل يبيت تحت سقف، وينام فوق سرير حقيقي، ويجد وجبة ساخنة تنتظره وقت العشاء. تساعده دار الأيتام في نشر إعلان يحتوى على صورته وبياناته في صحيفة واسعة التوزيع، إلا أن الأسابيع والشهور تمضي، دون أن يتواصل معه أحد من أسرته. في النهاية تعرض عليه إحدى الأخصائيات فرصة رائعة سوف تغير حياته وتنتشله من قضاء باقي العمر يتيمًا دون أسرة. هناك أسرة أخرى أسترالية تعرض تبنيه. تمد إليه الأخصائية يدها بصورة فوتوغرافية يبدو فيها شخصان، رجل وامرأة تبدو عليهما أمارات النعمة ويسر الحال. تقول له هذان سيكونان والديك. وخلال الأيام القادمة، تقوم الأخصائية بتعليمه مفردات إنجليزية يستطيع التواصل بها، كما تعلمه أصول اللياقة، وأداب المائدة.
يطير سارو إلى مدينة هادئة في أستراليا؛ للعيش مع الزوجين «جون بيريلي» (يؤدي دوره ديفيد وينهام) و«سو بيريلي» (تؤدي دورها «نيكول كيدمان»)، واللذان يبدوان غاية في اللطف والرقة والمحبة، ويبدو أخيرًا وقد عوضته الحياة عن مأساته. تمضي شهور قليلة ويقوم الزوجان بتبني طفل ثان ينتمي لنفس دار الأيتام التي استضافت سارو، إلا أن الطفل الثاني لا يبدو في هدوء وسكينة سارو، يبدو متوترًا ويقوم بضرب نفسه بشدة؛ عندما يغضب أو يشعر بالحزن، لكن العائلة تحاول احتواءه والتخفيف عنه.
البحث عن الأصول
ينتهي هذا الفصل من الفيلم ليبدأ فصلًا آخر حيث يكبر سارو ليصير شابًا يافعًا (يقوم بدور سارو الكبير ديف باتل بطل الفيلم الشهير «Slumdog Millionaire» الحاصل على ثماني جوائز أوسكار)، يقرر سارو دراسة علوم إدارة الفنادق، وينتقل لمدينة قريبة ليقيم فيها ريثما تتنتهي فترة دراسته. ينضم إلى مجموعة من الشباب الذين يدرسون نفس العلوم، ويتعرف على زملاء من جميع الجنسيات، ومنهم من هو قادم من الهند، والذي تجتذبه ملامح سارو. يندمج سارو في مجتمع الدراسة، ويتعرف على فتاة جميلة يقع في حبها – روني مارا، بطلة فيلم «The Girl with The Dragon Tattoo»-، حيث يقضيان الوقت في الدراسة وزيارة أهله والانخراط في مجتمع الشباب، حيث الكثير من الحفلات والرقص ولعب الكريكيت، تلك اللعبة المشهورة في الهند، وأيضًا في أستراليا.
يتغير مسار الفيلم عندما يحضر سارو لحفلة يقميها بعض أصدقائه الهنود، حيث يدعونه إلى مائدة تحتوي العديد من الأطعمة الهندية الأصلية، تجتذب إحدى أطباق الحلويات انتباه سارو، يحدق فيها طويلًا، وفجأة تبدأ الذكريات في الانهمار إلى عقله وروحه، يتذكر أن كان له أخ يأتيه بمثل هذه الحلوى، يتذكر أن له أم هندية، وأنه تاه عن أخيه في محطة للقطار يجاورها خزان عال للمياه.
وفي الثلث الأخير المشوق من الفيلم تدور رحلة سارو للبحث عن أخيه وأمه، يعلم أن المهمة مستحيلة؛ لأن ذكرياته عن مكان إقامته مشوشة وغير واضحة أو مكتملة، كما أن الهند تحتوي عشرات الآلاف من محطات السكة الحديدة قد يقضى عمره كاملًا في زيارتها قبل أن يجد المحطة الصحيحة. إلا أنه لا يفقد الأمل، ويسانده الجميع، حبيبته وأسرته وأصدقاؤه من أجل أن يجد أسرته الأصلية.
ويلقي الفيلم الضوء على مأساة تحدث يوميًا لآلاف من الأطفال الذين يفقدون ذويهم، ويحاول الدعوة لمشاركة النشطاء في الانخراط في البحث عن هؤلاء الأطفال ومساعدتهم على العودة لذويهم. كما أن المنتجين أطلقوا موقعًا إلكترونيًا لدعم الأطفال المفقودين وأطفال الشوارع، وتقديم التبرعات التي تساعد في ذلك، في مثال رائع لقدرة السينما على دعم القضايا المجتمعية والتأثير المباشر في تحسين حياة البشر.
يبقى شيء واحد أخير، وهو أن سارو أو «شارو» باللغة الهندية، تعني «الأسد». ولمزيد من المعلومات عن الفيلم، يُمكنك مشاهدة هذا اللقاء مع أبطاله:
The post أن تضيع في بلاد الهند الشاسعة.. عرض لفيلم «Lion» appeared first on ساسة بوست.